منذ الأيام الأولى للثورة انطلقت بلادنا في جملة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للخروج من العقد السياسي والاجتماعي الاستبدادي والدخول في عصر الديمقراطية وعلاقات سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة مبنيّة على احترام الحريات ومن ضمنها حرية التعبير
والتنظيم اللتين فقدناهما في الفترات السابقة. ولئن نجحت بعض الإصلاحات السياسية وتمكّنت بلادنا من وضع دستور ديمقراطي وتعددي فإن المسار الإصلاحي تميز بالتعثر والصعوبات والتحديات ذلك أن طريق التغيير والإصلاح صعبة ومعبّدة بالأشواك.
ويمكن لنا أن نشير إلى عديد الصعوبات التي واجهت الإصلاح والتي عرفتها شخصيا في تجربتي الحكومية. هذه الصعوبات هي تحديد الإصلاحات وخاصة تحديد الأولويات. وهذه المسألة ليست بالسهلة في بلد شلّ فيها النظام السابق الحركة الإصلاحية لسنوات طويلة وهنا تصبح مسألة تحديد الأولويات مسألة أساسية باعتبارنا لن نكون قادرين على تحقيق الكثير من الإصلاحات في نفس الوقت. وهناك كذلك الصعوبات المرتبطة بإعداد المشاريع الإصلاحية وإيجاد النفس الضروري لتغيير الوضع نحو الأفضل.
ثم لا بد من الإشارة إلى المسار التشريعي بعد انتهاء الحكومة من إعداد مشاريع القوانين والذي يأخذ الكثير من الوقت والجهد في نقاش متواصل وأخذ وردّ بين ممثلي الشعب والسلطة التنفيذية وهذا المسار يواجه كذلك العديد من الصعوبات والتحديات وفي عديد الأحيان تكون النتيجة أو القانون الذي تمت الموافقة عليه صعب التطبيق. ونشير كذلك إلى صعوبات أخرى مرتبطة بتطبيق القوانين الجديدة أو الإصلاحات وصياغة النصوص التطبيقية التي تحدد طرق ووسائل وضع هذه القوانين حيّز التطبيق. وأشار العديد إلى التأخير الذي تعرفه هذه الصياغة مما يجعل الإصلاحات تبقى في عديد الأحيان حبرا على ورق.
هذه الملاحظات تشير إلى صعوبة وتعثر في الإصلاحات في الفترة الأخيرة في بلادنا وهذا يعتبر تطورا مهما في بلادنا والتي عُرفت وتميّز تاريخها بالنفس الإصلاحي الكبير الذي كان وراء بناء الدولة الحديثة.
السؤال الذي يطرح نفسه بشدة يكمن في أسباب عجز الحكومات المتتالية منذ الثورة في تطبيق الإصلاحات وفي تغيير مؤسساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإعطائها الفعالية والنجاعة الضرورية من أجل دفع النمو والرفاه الاقتصادي والاجتماعي.
وقد وضعت كل حكومات ما بعد الثورة مسألة الإصلاحات على رأس سلمّ الأولويات وأكدت كلها إرادتها السياسية من أجل المضيّ قدما في تطبيق برامجها الإصلاحية وإعطاء نفَس جديد للنسق الإصلاحي الذي ميّز التجربة السياسية التونسية منذ القرن التاسع عشر إلا أنه بالرغم من التزام كل الحكومات في فترة ما بعد الثورة بتنفيذ برنامج إصلاحي طموح فإن البرنامج والمشروع الإصلاحي بقي محدودا ومتعثرا ودون طموح حتى المشرفين عليه وبقيت الإصلاحات التي قمنا بها كالإصلاح الجبائي ومجلة الاستثمار والإصلاحات البنكية جملة إصلاحات تقنية يتيمة لا يجمع بينها جامع وفي بعض الأحيان لا طعم لها ولا رائحة وإن أكدت أغلب حكومات ما بعد الثورة أننا قادمون على فترة إصلاحات ضرورية وموجعة إلا أننا لم نر لا الإصلاحات ولا الوجع بل تمادى القديم على ما هو عليه. سنعمل في هذه المساهمة على فهم أسباب هذا العجز إن لم نقل الفشل في فتح حقبة أو مرحلة إصلاحية جديدة في تاريخنا المعاصر؟
أغلب القراءات والدراسات تشير إلى سببين وراء هذا الجفاء الإصلاحي: السبب الأول يكمن في الوضع السياسي وعدم الاستقرار الذي تعرفه بلادنا بعد الثورة وتشير أغلب هذه الآراء والدراسات إلى أن الإصلاح يحتاج إلى وضع سياسي مستقر وحتى نظام سياسي مستقر إن لم نقل استبداديا لفرض هذه الإصلاحات وجعلها واقعا مقبولا كما كان الشأن مثلا في البلدان الآسيوية وأمريكا اللاتينية في السنوات الستين والسبعين من القرن الماضي. إلا أننا لا نتفق مع هذه القراءات ونعتقد أن فترات الأزمات السياسية هي فترات تحولات كبرى وتتطلّب بالتالي جرعة كبيرة من التغيير والإصلاح لبناء مؤسسات سياسية جديدة للخروج من هذه الأزمات.
السبب الثاني الذي يقدّمه العديد من الخبراء حول فشل الإصلاحات يعود إلى الأزمة الاقتصادية التي تمر بها بلادنا وعدم الاستقرار الاقتصادي والمالي والتي تفسّر صعوبة وضع الإصلاحات وتنفيذها. وهنا أريد أن أفنّد هذا الرأي وهذه القراءات فعديد التجارب تشير إلى أن فترات الأزمات الاقتصادية هي الفترات التي تطبّق فيها أغلب البلدان أهم الإصلاحات الاقتصادية للخروج من أزماتها وإعادة نسق النمو الاقتصادي والاجتماعي.
إذن يبقى السؤال مطروحا كيف يمكن لنا تفسير هذا التأخير والتعثر الكبير إن لم نقل العجز في القيام بالإصلاحات الكبرى في بلادنا والتي يؤكد الكل على أهميتها وضروريتها؟ لتقديم بعض الأفكار حول هذا الموضوع سنعود إلى التاريخ وسنرجع إلى تجربتين إصلاحيتين هامتين قمنا بهما في تاريخنا الحديث. الأولى تعود إلى المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، والثانية تعود إلى البدايات الأولى للاستقلال وإلى الحركة الإصلاحية التي قام بها الرئيس بورقيبة لإرساء الدولة الحديثة وهذه العودة إلى التاريخ يمكن في رأيي أن تعطينا بعض الإجابات على الحاضر والصعوبات التي نعيشها اليوم.
لنعد إلى التجربة الأولى وهي ترجع إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي شهد انتصار الأنظمة الحديثة وصعود الرأسمالية في أوروبا التي ستصبح تدريجيا القوى العالمية المهيمنة وستحاول بلادنا في هذه الفترة اللحاق بركب الدول المتقدمة وتحديث الدولة والاقتصاد إلا أن فشل هذه التجربة سيعجّل بدخول الاستعمار إلى بلادنا وخروجنا من التاريخ لفترة طويلة.
وستعرف بلادنا في النصف الأول من القرن التاسع عشر مرحلة كبيرة من عدم الاستقرار السياسي والحروب الطاحنة بين مختلف وُرثاء الدولة الحُسينية إلى جانب الأزمة السياسية ستعرف بلادنا في هذه الفترة عديد الآفات والأمراض وستقتل آفة الطاعون الذي سيستفحل في بلادنا بين سنتين 1818 و1820 عددا كبيرا من السكان، كما ستشهد هذه الفترة استفحال الأزمة الاقتصادية وأزمة المالية العمومية بعد تصاعد مصاريف البايات كأحمد باي الذي وصل إلى السلطة سنة 1837 وعملهم على تشييد القصور بالرغم من الصعوبات الاقتصادية التي كانت تمر بها البلاد في ذلك الوقت وستدفع هذه الأزمة البايات إلى الرفع في الجباية المسلّطة على الشعب وسيكون قرار 1864 بمضاعفة المجبى نقطة انطلاق لإحدى أكبر الثورات الشعبية في بلادنا بقيادة علي بن غذاهم والتي ستستمر لأشهر طويلة بالرغم من قرار الباي آنذاك التراجع عن قراره وكادت هذه الثورة أن تقضي على الدولة الحسينية ولن تنتهي إلا بالقبض على قائدها علي بن غذاهم الذي سيموت في سجن البايات.
إذن في ظل هذه الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأكبر والأخطر في القرن التاسع عشر في بلادنا ستنطلق النخبة الفكرية والسياسية في الدفاع عن الإصلاحات واعتبارها الطريق الوحيد للخروج من التأخر والتبعية واللحاق بالدول الأوروبية المتقدمة وستنطلق بلادنا في تطبيق وتنفيذ بعض الإصلاحات الكبرى كتكوين المدرسة العسكرية بباردو سنة 1837 والتي ستكون الإطار الذي ستتكوّن فيه الطليعة والنخبة الإصلاحية والتي ستلعب دورا مهمّا في تحديث الدولة التونسية.
وستعرف بلادنا في تلك الفترة وبالرغم من الأزمة الخانقة على كل الجوانب تدعيم النخبة الإصلاحية وتقوية عودها لا فقط على المستوى الفكري بل كذلك على مستوى هياكل الدولة وسيصبح خير الدين زعيم الفكر الإصلاحي وكتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك والصادر سنة 1867 إثر زيارته لفرنسا ولأسطمبول المرجع والمنارة الفكرية للحركة الإصلاحية في بلادنا. وقد قدّم هذا الكتاب المشروع الفكري والبرنامج الطموح للإصلاحات في بلادنا وأشار إلى ضرورة القطع مع الاستبداد وبناء نظام سياسي حديث ودولة حديثة ترتكز على اقتصاد متطوّر وسيصبح منذ ذلك الوقت مشروع الدولة الحديثة والتطور الاقتصادي والاجتماعي هو الإطار الفكري والسياسي للنخب السياسية التونسية.
وستندرج الإصلاحات التي ستعرفها الدولة التونسية في إطار هذا المشروع والبرنامج السياسي الكبير الذي سيعبّئ النخب التونسية وشرائح مجتمعية كبيرة وسيمكّن بلادنا من إدخال عديد الإصلاحات بالرغم من صعوبتها ونذكر منها عهد الأمان الذي وقع إعلانه سنة 1857 والدستور الذي سيقع الإعلان عنه في 26 أفريل 1861 لتصبح بلادنا أوّل بلد عربي لها دستور. وإلى جانب هذه الإصلاحات السياسية الكبرى فقد قامت كذلك بلادنا بعديد الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والتي وضعت بلادنا على سكّة التحديث وعلى طريق اللحاق بالدول الكبرى. إلا أن هذا المسار الإصلاحي سيتوقّف مع دخول بلادنا تحت الهيمنة الاستعمارية.
أما التجربة الثانية التي نريد الإشارة إليها فهي تخص السنوات الأولى للاستقلال والثورة الإصلاحية التي ستقوم بها الحركة الوطنية تحت قيادة الزعيم الحبيب بورقيبة، وهنا نشير إلى أن الوضع العام للبلاد لم يكن يختلف عن الوضع الذي عرفته الفترة الأولى للإصلاحات فقد كانت بلادنا على شفا حرب أهلية بين شقّي الحركة الوطنية وزعيميها الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف كما خلّف خروج الموظفين الفرنسيين فراغا كبيرا على المستوى الإداري كاد أن يوقع بالدولة وهياكلها. والأزمة لم تعد على المستوى السياسي بل عرفت بلادنا في السنوات الأولى للاستقلال أزمة اقتصادية ومالية مع سحب الودائع المالية الفرنسية لدى البنوك التونسية.
وبالرغم من الأزمة السياسية العاصفة وبدايات الحرب الأهلية والصعوبات الاقتصادية الخانقة فقد قرر الرئيس بورقيبة القيام بأكبر الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها بلادنا فكان إعلان الجمهورية ومجلة الأحوال الشخصية وتكوين البنك المركزي وبعث الدينار كعملة وطنية إذن لم تثن الأزمات الرئيس بورقيبة على القيام بالعديد من الإصلاحات الكبيرة والجريئة شكّلت ثورة هادئة على الهياكل والمؤسسات البالية والمهترئة التي ورثناها من عقود طويلة من التأخر والتبعية والتزمّت والجهل. وقد وضعت هذه الثورة الإصلاحية بلادنا على طريق الدولة الحديثة والمجتمع المتفتح وقد أكدت عديد الدراسات على صعوبة القيام بهذه الإصلاحات في مجتمع مازالت تكبّله التقاليد البالية لولا وضوح الرؤيا وانخراط هذه الإصلاحات في مشروع اجتماعي وسياسي كبير هدفه بناء الدولة الحديثة على أنقاض النظام السياسي البالي.
هذه العودة لهاتين التجربتين التاريخيتين تمكّننا من فهم أسباب نجاح أو فشل الإصلاحات الكبرى وهنا نودّ الإشارة بسرعة لبعض النتائج التي يجب أن تكون نبراسا لعملنا وسياساتنا الإصلاحية الكبرى.
الملاحظة الأولى وخلافا لما يروج له البعض والذين يشيرون إلى عدم انفتاح مجتمعنا على الإصلاح فإن تاريخنا يؤكد أن فكر وممارسة النخب التونسية مرتبط ارتباطا كبيرا بالإصلاح وقد تمكنت هذه النخب من تحقيق إصلاحات جريئة وجوهرية في فترات تاريخية صعبة.
الملاحظة الثانية وهي أن الأزمات السياسية وحتى العاصفة منها والأزمات الاقتصادية الخانقة لم تثن بلادنا عن القيام بإصلاحات كبرى بل بالعكس فقد أصبحت الإصلاحات في الفكر الإصلاحي التونسي طريقنا للخروج من الأزمات.
الملاحظة الثالثة وهي أن الإصلاحات ليست عملية تقنية وجملة من الإجراءات التكنوقراطية التي يمكن أن يقوم بها وزير في مكانه أو وزارته بل تنخرط في مشروع سياسي كبير.
الملاحظة الرابعة وهي أن الإصلاحات لا يمكن أن تأتي من الخارج بل لا بد أن تحملها النخبة من الداخل.
والملاحظة الأخيرة والأهم في رأيي وهي أن الإصلاحات تكون مهيّأة للنجاح إذا انخرطت في إطار مشروع كبير وعقد اجتماعي وسياسي كبير تحمله نخبة سياسية وفكرية هدفها تغيير المجتمع وبناء عقد اجتماعي جديد.
في رأيي فإن صعوبة الإصلاح في بلادنا والتي تميز تاريخها الفكري والسياسي بهيمنة الفكر الإصلاحي تعود إلى غياب الخيط الرابط بين جملة القوانين والإصلاحات الجزئية والبرنامج والرؤية الكبيرة للمستقبل الذي نحلم به وهذا الغياب يجعل نقاشاتنا حول الإصلاحات تتيه في التفاصيل والجزئيات الصغيرة.
إننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى نحتاج إلى بناء تصور وحلم كبير للمجتمع الما بعد الاستبدادي والعقد الاجتماعي الديمقراطي الذي نرنو إليه والذي سيشكّل نبراسنا وقانونا يقود خُطانا نحو الأمل والمستقبل وهذا في رأيي هو دور نخبنا السياسية والفكرية في بناء هذا الحلم الكبير والذي سيدفعنا إلى النظر إلى المستقبل بكل ثقة وتجاوز الصعوبات الظرفية ويجعلنا قادرين أكثر من الأمس على تطبيق الإصلاحات الضرورية حتى وإن كانت موجعة إذا أمنّا أنها طريقنا لدخول المستقبل.
بقلم الدكتور:حكيم بن حمودة
نشر بجريدة المغرب ، ركن مقهى الأحد
سبتمبر 2016 18