ملاحظات حول تاريخ الأصوات الرافضة في المغرب العربي

هل تمكنت الأنظمة القوية في المغرب العربي من قمع الأصوات الرافضة ؟ هل كان الاستبداد قادرا

على مدى أكثر من ستة عقود بعد الاستقلال وقيام الدولة الوطنية على إخماد الأصوات المعارضة والرافضة لهيمنة الحزب الواحد وسيطرته على مفاصل الدولة ؟
هل نجح القمع والتعذيب والترهيب وانسداد المجال السياسي في انقراض وانتفاء الأصوات الخارجة عن السرب والرافضة للديمقراطية الشكلية التي فرضتها الأنظمة الاستبدادية منذ بداية التسعينات لتكون بديلها عن كل مطالب التحول الديمقراطي والتعددية في المغرب العربي؟

هناك كم هائل من الأسئلة حول تجربة المعارضة والرفض في بلدان المغرب العربي . إلا أن الإجابات قليلة وغير ضافية وتقتصر على بعض المقالات الدراسات والتي قامت بها في بعض الأحزاب السياسية وبالتالي لا تتمتع بالحياد الكافي لتكون مرجعا في هذا المجال . بقي هذا المجال من الدراسات حول الحركات السياسية المعارضة مهمشا وخارج اهتمامات الباحثين إذا استثنينا أعمال الأستاذ عبد الجليل بوقرة وكتابه «من تاريخ اليسار التونسي : حركة آفاق» وكتابيه حول تجربة المناضل من حركة آفاق احمد كرعود والمناضل والقيادي من حركة النهضة لطفي زيتون .
إذا استثنينا بعض هذه الدراسات المحدودة فإن هذا المجال البحثي يبقى خاليا من الأعمال التي تهتم بهذه الحركات المعارضة وتدون تجربتها لتجعلها جزءا مهما من الذاكرة الجماعية .
وسنهتم في هذا المقال بدراسة جديدة نشرت مؤخرا ستلعب في رأينا دورا كبيرا في سد هذا الفراغ .

فقد أصدرت الباحثة في العلوم السياسية الدكتورة التونسية خديجة محسن فينان مع بيار فيرميران (Pierre vermeren) أستاذ التاريخ في جامعة السوربون والمختص في المغرب العربي كتابا مهما بعنوان «Dissidents du Maghreb depuis les indépendances» أو « المنشقون في المغرب العربي منذ الاستقلال» عن دار النشر الباريسية Belin.

واعتبر شخصيا هذا الكتاب من أهم الإصدارات الأخيرة حول المغرب العربي والتي يجب على المهتمين بالشأن السياسي في المغرب العربي قراءته وفهمه . وفي رأيي فإن أهمية هذا الكتاب وهذه الدراسة مزدوجة : الجانب المنهجي والأكاديمي من جهة والنتائج والفرضيات البحثية من جهة ثانية .
ومن الناحية المنهجية فإن أهمية هذا الكتاب تكمن في عديد الجوانب أولها بطبيعة الحالة القيمة العلمية للكاتبين ومعرفتهما الدقيقة بواقع بلدان المغرب العربي – وهذه المعرفة لا تقتصر على بلد بعينه بل تمتد على الأقل إلى البلدان الثلاثة أي تونس والجزائر والمغرب .

الجانب الثاني وهو النظرة الأكاديمية التي استعملها الكاتبان لدراسة هذه المسألة – فبالرغم من غوصهما في الشأن العام فقد التزم الكاتبان الحياد في دراسة مسألة فيها الكثير من التعقيد مما أعطى لهذه الدراسة الموضوعية الضرورية لتصبح مرجعا أساسيا في دراسة وفهم الحركات المعارضة في المغرب العربي .
كما تكمن كذلك أهمية هذا الكتاب من الناحية المنهجية في عدم اكتفاء الكاتبين بالمراجع والوثائق بل تجاوزا وخرجا من مكتبيهما للقيام بلقاءات عديدة مع الفاعلين السياسيين وقادة الحركات المعارضة في اغلب البلدان لفهم مساراتهم ومشاريعهم الفكرية والسياسية .

أما الميزة المنهجية الأخرى فتكمن في العمل التوثيقي الكبير الذي قام به الكاتبان . فقد ساهما في إعداد قائمة واسعة لأغلب المراجع والكتب والوثائق والدراسات حول هذا الموضوع مما سيسهل عمل الباحثين حول موضوع المعارضة في المغرب العربي ويدفع أجيالا جديدة لطرح الموضوع والخوض فيه .

والى جانب جدية المنحى والاختيارات المنهجية فإن أهمية هذا الكتاب تكمن كذلك في استنتاجاته ونتائجه البحثية الهامة – ولعل أهم نتيجة واستنتاج هو أن المعارضة والرفض كانا جزءا من المشهد السياسي لبلدان المغرب العربي منذ السنوات الأولى للاستقلال . فخلافا للقراءات الرسمية للتاريخ والسائدة والتي تركز على مسيرة الدولة والأحزاب الحاكمة وتحذف من قراءاتها الحركات المعارضة والأصوات الرافضة فإن تاريخ بلدان المغرب العربي هو كذلك تاريخ النقد والرفض والمقاومة والصمود أمام السلطة – ويشير الكاتبان أن هذه الدراسة هي محاولة لإلقاء الضوء على هذه الأصوات المغمورة والتي تناستها الراويات الرسمية للتاريخ في المغرب العربي – والحديث عن الأصوات المعارضة والنقدية يجرنا للحديث عن صمودها ومقاومتها وفي نفس الوقت عن مخزون العنف والاستبداد والاضطهاد الذي تعرضت له من قبل زبانية السلط وأدواتها الأمنية والقمعية .

بعد هذه الملاحظات المنهجية ينطلق الكتاب في رحلة شيقة في أهم تجارب المعارضة لأنظمة الحكم في بلدان المغرب العربي – ونقطة الانطلاق ستكون مع تجارب بناء الدولة الوطنية غداة الاستقلال – سيقوم الكاتبان بالتوقف عند الصراعات التي عرفتها حركات التحرر الوطني وانعكاساتها على الدولة الوطنية والصراعات التي ستعرفها السنوات الأولى للاستقلال

– فستتوقف الدراسة عند الصراع بين الحركة اليوسفية والبورقيبية وبين مختلف أجنحة جبهة التحرير في الجزائر وبين المؤسسة الملكية والمخزن في المغرب وبعض مكونات الحركة الوطنية – وستنتهي هذه الصراعات بتصفية رفاق الأمس في الحركة الوطنية وتهميش المعارضين لتبسط الدولة الجديدة سيادتها وهيمنتها على المجال السياسي في بداية الستينات .
إلا أن هذا الهدوء الذي ستعرفه الساحة السياسية في اغلب بلدان المغرب العربي في بداية الستينات لن يكون طويل المدى – فستعرف نهاية الستينات ظهور الحركات الشبابية والمعارضة اليسارية والتي ستتأثر بانتفاضات الشباب على المستوى العالمي ، اثر ثورات ماي 1968 والحركة العالمية المناهضة للحرب في فيتنام – وستحمل حركات إلى الأمام و23 مارس في المغرب وآفاق في تونس وحزب PA65 آمال الشباب أو كما سماهم نورالدين بن خذر الأبناء غير الشرعيين لبورقيبة وآباء الحركة الوطنية في بلدان المغرب العربي، في التغيير والخروج من تكلس السلطة السياسية في بلدان المغرب العربي وتراجعها عن مبادئ الحرية والديمقراطية – ويتعرض الكتاب بإسهاب الى القمع والتعذيب ومخزون العنف الذي أطلقته الأجهزة القمعية على هذا الجيل الأول من المعارضين . فقد عرفت هذه المجموعات من الشباب الثائر القمع والتعذيب والاعتقال في سجون السلطة – كانت هذه التجربة مريرة وكانت هذه السنوات سوداء في تاريخ الدولة الوطنية .إلا انه وبالرغم من مرارتها فقد أسست هذه التجربة السياسية الأولى لتقليد المعارضة ورفض هيمنة الأحزاب الحاكمة على السلطة السياسية وعلى أجهزة الدولة لتكون نقطة الانطلاق للنضال الديمقراطي وفتح المجال السياسي للتعددية واحترام الاختلاف .

وستعرف السبعينات ظهور جيل جديد من المعارضة والرفض في بلدان المغرب العربي وهو جيل الديمقراطية والذي يختلف في منطلقاته الفكرية والسياسية عن جيل الشاب الثوري لبداية الستينات – فجيل المعارضة الديمقراطية لم يكن يسعى إلى التغيير الثوري لأنظمة الحكم كما لم تكن الماركسية منبعه الفكري والإيديولوجي كما كان الشأن بالنسبة للجيل الأول – وقد كان الهاجس الأساسي لهذا الجيل من المعارضة الديمقراطية هو فتح الفضاء السياسي أمام التعددية السياسية وفرض احترام حقوق الإنسان وضمان الحريات الأساسية في بلدان المغرب العربي .

وسيكون هذا الجيل الجديد وراء بروز المنظمات الحقوقية وخاصة جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان والتي ستنطلق مع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان والتي ستنطلق سنة 1977. إلا أن الأهم في تجربة هذا الجيل الثاني من المناضلين هو إدراجها للنضال الحقوقي ضمن أولويات النضال السياسي والذي اعتبره الجيل الثوري الأول عملا إصلاحيا لا فائدة من ورائه في مشروع تغيير الوضع السياسي لبلدان المغرب العربي .

ويهتم الكتاب كذلك بما اسميه الجيل الثالث للحركات المعارضة والتي ستنطلق منذ منتصف السبعينات كحركات دعوية لتجديد الفكر الإسلامي لتتحول تدريجيا إلى حركات سياسية وليصبح الإسلام السياسي منذ بداية الثمانينات مكونا أساسيا من مكونات المعارضة السياسية في بلدان المغرب العربي . وان لم تعط هذه الدراسة الأهمية التي تستحقها لحركات الإسلام السياسي واقتصارها على التجربة المغربية فإن الحوارات مع قادة هذا الاتجاه أشارت إلى المنبع الأساسي والاهتمام الرئيسي لهذه الحركات ويخص نقدها للبرنامج التحديثي لدولة الاستقلال ومحاولته إقصاء المخزون الديني والتراثي لهذه المجتمعات وسيكون بالتالي الرجوع إلى الهوية وتأكيد العمق العربي والإسلامي في التجربة السياسية احد أهم مطالب الإسلام السياسي .

يمثل هذا الكتاب رحلة عميقة وشيقة في التجربة السياسية لبلدان المغرب العربي – فإلى جانب تأكيده على ثراء هذه التجربة والتي لم تقتصر كما تؤكد الروايات الرسمية على تجربة السلطة والهيمنة بل شملت كذلك تجارب المعارضة والرفض والصمود التي قدمها وأعطانا المفاتيح الضرورية لفهمها وقراءتها – والى جانب تقديمه لثلاثة أجيال أساسية في هذه التجارب وهي الجيل الثوري لنهاية الستينات والجيل الديمقراطي لمنتصف الثمانينات والجيل الإسلامي للثمانينات والتسعينات قام الكاتبان بتقديم تجربتين مغمورتين وهي تجارب الحركات الثقافية والمدافعة عن بعض الأقليات كالحركة البربرية والأمازيغية في المغرب والجزائر والحركات المعارضة في المهجر والتي لعبت دورا كبيرا في دعم العمل السياسي والمعارضة في الداخل وحشد الدعم العالمي لها في أحلك فترات الاستبداد .

وفي رأيي وبالرغم من التعارض بين تجارب الأجيال الثلاثة من المعارضة والاختلافات الإيديولوجية والسياسية بينها فإنها وفي بعض الأحيان من حيث لا تعلم حددت آفاق ومجالات التجربة السياسية في بلدان المغرب العربي – فتجارب المعارضة السياسية لم تذهب أدراج الرياح بل ساهمت في تحديد مجال العمل السياسي ولعبت دورا كبيرا في تعبئة الرأي العام من اجل التغيير الديمقراطي وساهمت بالتالي في ثورات الربيع العربي – فقضايا التغيير الاجتماعي والعدالة والتي دافع عنها الجيل الأول والمسألة الديمقراطية والتي دافع عنها الجيل الثاني وإعطاء أهمية اكبر للمخزون الثقافي والفكري والتي كانت في لبّ تجربة الإسلام السياسي تشكل اليوم الإطار العام للنقاش والعمل وفي بعض الأحيان للجدل السياسي .

بالرغم من أهمية هذا الكتاب فانه لا يخلو من الهنات والنقائص – المسألة الأولى تخص الحيز المحدود الذي خصصه لتجربة الإسلام السياسي مقارنة بالحركات الأخرى – المسألة الثانية تخص تجاهله للجيل الرابع لهذه الحركات المعارضة وهو جيل الشبكات الاجتماعية والناشطين السياسيين الجدد والذين لعبوا دورا كبيرا في ثورات الربيع العربي – المسألة الثالثة تخص تحامل الكاتبين على حركات المعارضة في خاتمة الكتاب والتي أكدا من خلالها أن عجز المعارضات في تغيير الواقع كان وراء بروز الحركة الشعبية والجماهيرية كمحرك للثورات والتغيير في بلدان الربيع العربي . وفي رأيي فإن هذه النتيجة فيها الكثير من التسرع والتحامل على حركات المعارضة والتي ولئن لم تساهم مساهمة مباشرة في

الثورات العربية فإنها حددت مجالات وآفاق التجربة السياسية في بلدان المغرب العربي بالرغم من بعض الهنات والنواقص فإن هذا الكتاب يشكل مساهمة أساسية لقراءة التجربة السياسية والوقوف على ثرائها في بلدان المغرب العربي . وندعو الباحثين في العلوم السياسية إلى المواصلة في هذه الدراسات ودعمها بقراءات جديدة لفهم التجربة والتقاليد السياسية في بلدان المغرب العربي لأن قراءة التاريخ والوقوف عند نقائص تجارب هي أساسية لفتح آفاق جديدة للعمل السياسي وللتغيير في فترات الأزمات .

Laisser un commentaire

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée.