قهوة الأحد: عبق الشرق


Hakim-ben-hammouda-l-economiste-maghrebin

علاقة الغرب بالشرق وبصفة خاصة الشرق الإسلامي ليست وليدة اليوم بل ترجع إلى آلاف السنين وتسافر بعيدا في التاريخ وكان لهذا اللقاء بين الشرق والغرب محطات هامة نذكر البعض منها.

لعل أولها هو صعود الدولة الإسلامية منذ الخلفاء الراشدين وبداية الفتوحات الإسلامية وخاصة الحروب ضد الدولة البيزنطية حتى نهاية القرن السابع. ولم تقتصر بدايا هذه العلاقة على الجانب العسكري بل تجاوزته إلى الجوانب الفكرية والفلسفية فقد مكنت هذه الفتوحات المفكرين الإسلاميين من الاطلاع على الفلسفة اليونانية وبداية ترجمة أهم أعلامها كأفلاطون وأرسطو لتصبح بذلك الدولة الإسلامية في أوج الدولتين الأموية والعباسية أحد أهم المراكز الفكرية في العالم.

ولا بد كذلك من الإشارة إلى محطة هامة في هذه العلاقة التاريخية بين الشرق الإسلامي والغرب وهي فتح الأندلس على يد القائد طارق بن زياد سنة 711 م وبناء دولة إسلامية وهي الدولة الأموية في قلب العالم المسيحي وقد تواصل الفتح الإسلامي إلى جنوب فرنسا ولم يوقفه إلا شارل مارتال وقواته في واقعة Poitiers المعروفة. وهكذا بدأت علاقة التنافس والمواجهة وتضارب المصالح بين الشرق أو الدولة الإسلامية والتي كانت في تلك الأيام في أوج عزّها وتطورها والعالم المسيحي أو الغرب والذي عرف في تلك الفترة الوسيطة مراحل متقدمة من الانحطاط والتردي.

وستتواصل هذه العلاقة المهتزة بين العالمين الغربي والشرقي وستعرف ترديا كبيرا مع بداية الحروب الصليبية وخروج أول حملة صليبية سنة 1096م لاسترداد القدس وفتح إمكانية الحج لها من جديد. وقد تميزت هذه العلاقة منذ ذلك الوقت بالعنف والحروب المدمرة والقاتلة وجعلت من العالمين ألدّ الأعداء بين مد وجزر في الحروب العديدة التي ستجمعها على الطريق بين روما والقدس.

وستشتد هذه العداوة ووطأة المواجهة بين العالمين مع سقوط القسطنطينية سنة 1453م ونهاية الدولة اللاتينية وسيجعلها العثمانيون عاصمة لإمبراطورية جديدة وللدولة العثمانية.
إلا أن سقوط القسطنطينية سيكون آخر انتصارات المسلمين أمام الغرب المسيحي. فسيشهد العالم بداية تفكك العالم الإسلامي وتكوين دويلات صغيرة ستنهك قواه في مواجهة بعضها دون الاهتمام بالخطر القادم من الغرب. وسيكون سقوط الأندلس سنة 1492م نقطة البداية لنهاية الدولة الإسلامية وهيمنتها. وسقوط الأندلس وخروج المسلمين وهروبهم إلى مدن إفريقيا الشمالية لم يكن حدثا سياسيا وعسكريا فقط بل كان نتيجة التدهور الذي عرفته المجتمعات الإسلامية وبداية انحطاطها نتيجة لتراجع العلم والمعرفة والاقتصاد والفلاحة.

وسيشكّل سقوط الأندلس نقطة مفصلية في تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب. وإذ سيعرف الشرق تراجعا كبيرا إذا استثنينا بعض مراكز الإمبراطورية العثمانية على كل المستويات السياسية والفكرية والاقتصادية فإن الجزء الثاني من هذه الألفية سيشهد بداية صعود الغرب والذي سيصبح مع الثورة الصناعية القوى الاقتصادية المهيمنة على العالم وسيفتح بالتالي عصر الإمبرياليات والهيمنة الاستعمارية.

ومنذ هذه الفترة يمكن أن أشير إلى ثلاثة مواعيد هامة في تاريخ العلاقة بين الشرق المتراجع والغرب القادم. أما الفترة الأولى فهي بداية عصر الأنوار في بداية القرن الثامن عشر والذي سيشهد حركة فكرية وثقافية وفنية هامة سيقودها علماء وفلاسفة كـ اسحاق نيوتن ومونتاسكيو ولوك وديدرو وكوندياك وفولتير وجون جاك روسو…

وستعطي هذه الحركة الفكرية للغرب هويته الفكرية من خلال التأكيد علىا لعلم والخروج من الفكر الظلامي وسيطرة الكنيسة على الحياة الفكرية والسياسية. وستنتج فلسفة الأنوار وهذا العصر منظومة الحداثة التي ستؤكد على دور العقل والحرية والفرد وضرورة احترام حريته.

وستجد هذه الحركية الفكرية في الثورة الفرنسية ومنظومة حقوق الإنسان حليفا استراتيجيا وسيحقق أهدافها السياسية من خلال بناء أنظمة سياسية حديثة مستقلة على الكنيسة هدفها حماية حرية الفكر والعقيدة وجعل الديمقراطية في جوهر النظام السياسي.

أما الموعد الثاني فهو يخصّ حملة بونابرت على مصر سنة 1798م أي عشر سنوات إثر الثورة الفرنسية وتعتبر هذه الحملة أول لقاء بين العالمين إثر انهيار الشرق وصعود الغرب. وقد شكّل هذا اللقاء صدمة كبيرة للعالمين حيث أدركا الهوة الكبيرة التي تفصلهما.
فمن جهة نجد العالم الغربي الذي بدأ تحوله الفكري والسياسي ودخل في ثورة صناعية واقتصادية ستجعل منه القوة المهيمنة على العالم وستفتح مرحلة التوسع الاستعماري. ومن جهة أخرى

ستكون نهاية القرن الثامن عشر نقطة انطلاق لمرحلة تهميش كبرى للدول العربية على مدى قرن ونصف سيعرف فيها الهيمنة الاستعمارية والتبعية وأقصى أشكال الانحطاط والتخلف.
أما الموعد الثالث لهذه العلاقة المتوترة والمهتزة التي تجمعنا بالآخر فستكون مع صعود الحركة الوطنية في العالم العربي إثر انتهاء الخلافة سنة 1924م. وستعمل حركات التحرر الوطني في نضالها على التحرر من هيمنة الآخر والتبعية للمركز الاستعماري من خلال بناء الدولة الوطنية. وبالرغم من التعارض السياسي بين الغرب المستعمر في فترة النضال الوطني فقد التقى

برنامج حركات التحرر الوطني مع الآخر في اعتبار أن الخروج من التهميش والانحطاط يمر عبر إتباع برنامج الحداثة وتطوير المجتمعات الوطنية من خلال تحديث هياكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إلا أن المشروع الوطني تناسى جانبا هاما ألا وهو الحرية والديمقراطية مما نتج عنه نمو الاستبداد والاضطهاد في أغلب الأنظمة الوطنية.

إذن على مدى التاريخ كان للعلاقة بين الشرق والغرب عبق خاص ومكانة هامة. وقد تراوحت نظرة الغرب للآخر بين الرفض والتعالي وشيء من الغيرة والحسد أو التعايش. الرفض عبّرت عنه على مدى التاريخ عديد القوى السياسية والدينية وحتى الفكرية من عديد المستشرقين والتي لم تقبل وتأبى التعاطي مع الآخر وترفضه رفضا شديدا للمحافظة على نقاوة الحضارات الغربية.

وأخذ هذا الخطاب كما نرى اليوم في عديد البلدان الأوروبية منحى عنصريا وتتمسك به عديد القوى اليمينية المتطرفة في محاولتها إبراز أن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية كالبطالة التي تتخبّط فيها المجتمعات هي نتيجة للتواجد المكثف للأجنبي أو الآخر في هذه المجتمعات.

أمّا موقف التعالي فقد دافع عنه عديد المستشرقين والمفكرين والذين يعتبرون أن الحضارة الغربية ترتكز على مشروع فلسفي أسمى ومتفوق على المشروع الفلسفي للآخر. ويعتبر هؤلاء المستشرقون أن مشروع الحداثة وفلسفة الأنوار فتحت أبواب الغرب على مبادئ سامية كالحرية والعقلانية والديمقراطية لا يزال يجهلها الشرق الذي بقي حبيسا للفكر الظلامي ولهيمنة الفكر الديني على التفكير وعلى الحياة العامة.

أما الغيرة فقد عبّر عنها العديد من الرافضين والمناوئين لفلسفة الأنوار والمشروع الحداثي في الغرب وللثورة التي قامت في البلدان الغربية والتي أخرجت الدين من الفضاء العام ودفعت به إلى الفضاء الخاص. وأصبح لدى هؤلاء المفكرين حنين للمجتمعات القديمة التي يحكمها الدين وصار الشرق الساحر بالنسبة إليهم حيث يلعب الدين دورا هاما مثالا للمجتمعات التي يجب العودة إليها.

كما نجد العديد من المفكرين والقادة الذين يعملون كل ما في وسعهم للخروج من الحلقة المفرغة للصراع مع الآخر ومحاولة بناء أسس جديدة للتعايش وتقاسم بعض المبادئ الأساسية وجعلها قاعدة لتجربة جديدة في التعاون والتفاهم. إذن اختلفت القراءات ونظرة الغرب للآخر على مر التاريخ إلا أن عبق الشرق بقي قويا وهاما في المجتمعات الغربية.

وقد تزايد هذا الاهتمام في السنوات الأخيرة خاصة بعد ثورات الربيع العربي فقد رأى العديد من المفكرين أن نهاية الاستبداد وانفتاح الأنظمة السياسية العربية على مبادئ الحرية والديمقراطية سيكون نقطة انطلاق للقاء استراتيجي جديد مع الآخر. وقد تواصل هذا الاهتمام في الأشهر الأخيرة بعد تزايد الهجمات الإرهابية على عديد البلدان الأوروبية وبصفة خاصة في العاصمة الفرنسية باريس.

ولعل أهم مؤشر على عبق الشرق في المجتمعات الغربية هو مبيعات الكتب خلال السنة الفائتة وهنا لا بد من الملاحظة أن أكثر الروايات مبيعا في فرنسا خلال سنة 2015 هي الروايات التي تهتم بالآخر وإن دافعت عن مواقف سياسية في بعض الأحيان متناقضة. والرواية الأولى هي للكاتب الفرنسي Michel Houllebecq بعنوان Soumission وهي (رواية من نوع الخيال) وتحكي عن انتخاب رئيس جمهورية ينتمي لحزب إسلامي في فرنسا سنة 2022 وعن التغييرات التي سيدخلها على نمط عيش الفرنسيين ما سيدفع العديد منهم الى الهروب ويدافع هذا الكاتب الذي يتمتع بشعبية كبيرة في فرنسا عن نظرة سوداوية ومتشائمة لمستقبل فرنسا وحضارتها ويعتبر أن الإسلام هو الخطر القادم والذي يترصد أوروبا.

أما الرواية الثانية فهي المتحصلة على جائزة Goncourt للكاتب Mathias Enarg وعنوانها Boussob وهي عبارة عن عودة موسيقي من مدينة فيينا في ليلة أرق الى ذكرياته وسفره في عديد المدن الإسلامية لفهم تأثير الموسيقى الشرقية على الموسيقى الكلاسيكية الغربية. وهذه الرحلة هي في نفس الوقت رحلة بحث عن حب وعن امرأة فقدها للأبد.

ويختلف المنحى الإيديولوجي لهذه الرواية عن الرواية الأولى باعتبارها دفاعا على حوار الحضارات وقدرة الغرب والشرق على بناء الحضارة الإنسانية من خلال تعايشهما.

أما الرواية الثالثة والتي كانت مرشحة بشدة لنيل جائزة Goncourt فهي للجزائري بوعلام صنصال بعنوان 2084 وهي على غرار كتاب George Orwell لرواية 1984 تحاول استقراء مستقبل العالم الإسلامي والديكتاتوريات القادمة ذات الإيديولوجيات الإسلامية. ويُعرف عن الكاتب نقده الكبير للإسلام وللحركات الإسلامية مما جعل البعض يضعه في خانة المستشرقين المعادين للإسلام.

أما الرواية الرابعة فهي للكاتب التونسي الهادي قدور وهي بعنوان Les prépondérants والتي تحصلت مع رواية بوعلام صنصال على جائزة الرواية للأكاديمية الفرنسية وهي تروي الحياة اليومية وتعايش عديد الفئات الاجتماعية والجنسيات في إحدى المدن المغاربية خلال الحقبة الاستعمارية. ومن خلال متابعته لبعض الشخصيات يقوم الروائي بقراءة دقيقة لعالم المستعمرين وأصحاب الأرض لآمالهم وأحلامهم في تعارضها وفي التقائها في بعض الأحيان.

ويمكن إلى جانب هذه الروايات الأربع أن نشير إلى عديد الكتب الأخرى التي لقيت رواجا كبيرا في فرنسا وفي عديد البلدان الأوروبية الأخرى والتي اهتمت بالآخر. ولئن اختلفت التصورات والقراءات والنظرة فإنها التقت في اهتمامها بهذا العبق القادم من الشرق لفهمه وفي تقديرنا وبالرغم من محاولة الإرهاب قطع العلاقة مع الغرب وإرجاعها لماضيها العنيف والمظلم فإن ثورات الربيع العربي فتحت مجالا جديدا لهذه العلاقة سيكون فيه التعاون والتعايش أبرز ملامحها.

article publier au journal le Maghreb en date du 18 janvier 2016

Laisser un commentaire

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée.