قهوة الأحد: تونس وصندوق النقد الدولي تحديات العودة إلى المربع القديم للسياسات الاقتصادية

وقد سبق هذه الزيارة الكثير من القلق حول مآل ونتائج هذه الزيارة وقد زاد تأخير موعد هذه الزيارة من القلق والانتظار الحذر – ويعود هذا القلق إلى الأزمة العميقة التي تعرفها المالية العمومية منذ أشهر والذي جعل من هذه الزيارة والاتفاق مع صندوق النقد مسألة إستراتيجية أو مسالة حياة أو موت كما أشار بعض المتابعين والمحللين لوضع المالية العمومية.وكي نأخذ فكرة عن حدة الأزمة المالية العمومية التي وصلت إليها بلادنا لابد أن نشير إلى أنّ ميزانية الدولة عرفت مستوى كبيرا من العجز جعلنا مرتبطين شديد الارتباط بمصادر التمويل الخارجي وبصفة خاصة بالاتفاق مع المؤسسات المالية العالمية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي .وقد بلغت مصاريف الدولة كما حددتها الميزانية لسنة 2017 حدود 32 مليار دينار بينما لم تتجاوز المداخيل مبلغ 24 مليار دينار – وقد خلق هذا الانخرام عجزا بقيمة 8 مليار دينار وقد حددت الميزانية أنه سيقع تمويل 3 مليار دينار من هذا العجز في السوق المالية الداخلية .ممّا يعني أنه يجب توفير 5 مليار دينار من مصادر التمويل الخارجية .ويتأتى هذا التمويل من مصدرين أساسيين : الأول هو المؤسسات المالية العالمية والثاني هو الأسواق المالية العالمية .
وقد خرجت بلادنا على الأسواق منذ أسابيع على سوق اليورو لتوفير مليار يورو لم نتمكن من اقتراض منها إلا 850 مليون يورو . ويبقى إذن الجزء الهام والأساسي الذي يجب توفيره من التمويل الخارجي عند المؤسسات المالية العالمية .وهذه الوضعية تنبئ بأهمية الاتفاق مع صندوق النقد والزيارة الأخيرة التي قام بها إلى بلادنا – وأهمية هذا الاتفاق لا تقتصر على أهمية أقساط قرض الصندوق فقط. بل تكمن هذه الأهمية في أن الاتفاق مع الصندوق يشكل كذلك المفتاح الأساسي والشرط الضروري الذي سيفتح لنا المجال للحصول على قروض المؤسسات الأخرى مثل البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية والاتحاد الأوروبي .فهذه المؤسسات لا تقدم على إقراض الدول أن لم تصل إلى اتفاق مع صندوق النقد.

هكذا إذن وجدنا أنفسنا في وضعية مالية شائكة ممّا جعل الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد مسالة هامة وأساسية . وهذا الوضع كان وراء القلق والحذر الذي خيم على الوضع الاقتصادي في بلادنا قبل هذه الزيارة وحتى أثناءها.

وكنا نعلم أن هذه الزيارة لن تكون سهلة وان هذه المفاوضات ستكون عسيرة وشاقة .وبالرغم من صعوبة المهمة وحدة المفاوضات فقد وصلنا إلى اتفاق مع بعثة الصندوق حول صرف القسط الثاني من القرض والذي كان من المنتظر صرفه في شهر ديسمبر من السنة المنقضية . والوصول إلى هذا الاتفاق وبالرغم من انه لم يشمل القسط الثالث الذي كان من المنتظر صرفه في نهاية شهر مارس المنقضي يعتبر ايجابيا – فصرف هذا القسط سيمكن من إيجاد موارد هامة ستقلص الضغط على المالية العمومية – كما أن الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد سيفتح الباب لصرف قروض البنك الدولي والاتحاد الأوروبي والبنك الإفريقي للتنمية مما سيفتح هامش تنفس للمالية العمومية ويقلص من حدة أزمتها.

إلا أن الاتفاق الذي وصلنا إليه مع صندوق النقد أشار إلى جملة الإصلاحات الجديدة التي يجب علينا القيام بها وتحقيقها لنتحصل على الأقساط القادمة من القرض. وهذه الإصلاحات تهم قطاعات كبيرة كالمالية العمومية وتقليص نسبة الأجور في الميزانية وإصلاح الوظيفة العمومية وإصلاح الصناديق الاجتماعية وإصلاح المنظومة البنكية وإصلاح منظومة الدعم – وهذه الإصلاحات ليست بالهينة والسهلة – فهي إصلاحات ستثير العديد من الانتقادات وحتى الرفض من عديد القطاعات الاجتماعية وقد تقود البلاد إلى المزيد من الاضطرابات .ويبقى التحدي الأساسي في رأيي هو الاهتمام والانكباب على أولوياتنا الاقتصادية وبصفة خاصة دفع النمو ودفع الاستثمار .فعودة النمو هي الكفيلة وحدها بإعادة الحركة والنشاط الاقتصادي والذي سيقلص من حدة الأزمة وسيسمح بخلق هامش حركة للمالية بفضل المداخيل الجبائية الجديدة خاصة وان نقطة النمو الإضافية تجلب ما بين 300 و400 مليون دينار مداخيل إضافية.

لكن الذي أثار انتباهي في تطور العلاقة مع صندوق النقد هو التطور الذي عرفته في القضايا المطروحة و محور النقاشات والذي يمكن أن نلاحظه في هذا المجال أن هذا الاتفاق شمل 3 محاور أساسية وهي :

التوازنات المالية الكبرى الإصلاحات الاقتصادية والسياسات الاقتصادية – وقد كان التأكيد في السنوات الأولى على الجانبين الأولين أي حماية التوازنات المالية التسريع في نسق الإصلاحات الاقتصادية الكبرى كالإصلاح الجبائي والإصلاح المالي والبنكي وإصلاح منظومة الدعم إلى غيرها من الإصلاحات الأخرى.إلا أن التوجه الجديد يعطي أهمية اكبر للسياسات الاقتصادية الكبرى وكما أشرت فان هذا الجانب لم يكن غائبا في السابق إلا انه اخذ اليوم مجالا اكبر في هذه المفاوضات .

وقد أشار تقرير البعثة الأخير إلى هذه المسالة وأكد على أهميتها – وقد خص التقرير وأكد على مجالين هامين في السياسة الاقتصادية هما سياسة سعر الصرف والسياسة النقدية كما اهتم كذلك صندوق النقد بالسياسة المالية أو politique budgétaire وأكد على ضرورة تخصيص نسبة كبيرة من ميزانية الدولة للاستثمار العمومي .

والذي أريد أن أشير إليه في هذا المجال أن تمشي صندوق النقد في قراءته للسياسة الاقتصادية وتوصياته لتوجهاتنا في هذا المجال تعيدنا إلى المربع القديم وبصفة خاصة إلى توافق واشنطن أو consensus Washington والذي طبقته المؤسستان الأختان صندوق النقد والبنك الدولي في إطار ما يسمى ببرامج التعديل الهيكلي التي تم تطبيقها في البلدان النامية اثر أزمة المديونية في السنوات الثمانين (1980) وقد اعتمدت هذه السياسات على فلسفة تنموية جديدة تقطع مع سياسة تدخل الدولة التي طبعت السياسات التنموية في الستينات والسبعينات وجعلت من السوق المحرك الرئيس والمحدد الأول للسياسات الاقتصادية في البلدان النامية .وقد جاء هذا التطور في جو عام تميز بأزمة الاشتراكية الديمقراطية التي كانت تحكم العالم مع تصاعد الأزمة الاقتصادية وصعود القوى اليمينية مع انتصار رونالد ريغن في الانتخابات الأمريكية والمرأة الحديدية مارغرت ثاتشر في بريطانيا – وقد شهدت هذه الفترة صعود الاختيارات النيوليبرالية التي قلصت من دور الدولة لفائدة السوق.

إذن كان لهذا الجو السياسي والإيديولوجي والفكري العام تأثير على السياسات التنموية والتي اتبعت المنحى النيوليبرالي في إطار برامج التعديل الهيكلي وتوافق واشنطن .وقد طبعت هذه التوجهات توصيات صندوق النقد والبنك الدولي للبلدان النامية على مستوى سياساتها الاقتصادية. فعلى مستوى ميزانية الدولة وقع التأكيد على الخفض من مصاريف الدولة القارة ومن استثماراتها من اجل تخفيض العجز.كما وقع التأكيد فيما يخص السياسة النقدية على ضرورة إعطاء السوق كل الحرية في تحديد نسب الفائدة وبالتالي رفض تدخل الدولة في هذا المجال وجعل الفائدة نتيجة لعملية العرض والطلب في مستوى التمويل . نفس الشيء وقع كذلك لسياسة سعر الصرف فتم الخروج من تدخل الدولة في هذا المجال وتحرير سعر الصرف وجعله مرتبطا بالعرض والطلب .

تم تطبيق هذه السياسات في اغلب البلدان النامية التي كانت تمر بأزمات مديونية في تلك السنوات .وكان الهدف من هذه البرامج هو إعادة التوازنات المالية الكبرى لهذه البلدان وإحياء ودفع النمو. إلا أن نتائج هذه السياسات لم تكن بمستوى الطموحات والأهداف المرسومة .وقد عرفت هذه السياسات نقدا كبيرا من قبل منظمات المجتمع المدني . وقد اعترفت المؤسسات بعد سنوات بمساوئ هذه البرامج وعدم قدرتها على تحسين وضعية البلدان النامية.

وقد زادت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية لسنوات 2008 و2009 من حدة النقد الموجه لهذه السياسات وهذه الاختيارات وأكدت على فشل السوق وعدم قدرته على تجاوز الأزمات الاقتصادية وقد كان لهذه الأزمة تأثير كبير على التوجهات الاقتصادية الكبرى وكان وراء ثورة فكرية عجلت بعودة الدولة والاختيارات الكينيزية في هذا المجال .وقد عرفت هذه الفترة رجوع ما نسميه بالسياسات النشيطة والتي تعطي مجالا لتدخل الدولة في عديد المستويات الاقتصادية لتجاوز أخطاء السوق ولم تبق هذه الأفكار الكبرى حبرا على ورق بل شكلت توصيات المؤسسات الكبرى كصندوق النقد والتي أصبحت اقل رفضا للسياسات النشيطة بل أوصت عديد البلدان النامية بالخروج من المربع القديم لتوافق واشنطن وبرامج التعديل الهيكلي وتصور سياسات اقتصادية جديدة تفسح مجالا لتدخل الدولة .

وقد عرفت بلادنا مع مختلف حكومات ما بعد الثورة تطبيق هذه السياسات النشيطة فقد شهدت ميزانية الدولة ارتفاع الاستثمار العمومي– كما عمل البنك المركزي على محاولة المحافظة على نسب فائدة محدودة لدفع الاستثمار ثم حاول بإمكانياتنا المحدودة حماية الدينار والمحافظة على الحدّ من انخفاضه مقارنة بالعملات الأجنبية .

وهذه السياسات النشيطة وهذا التدخل للدولة كان ضروريا في بلادنا نظرا للازمة الاقتصادية الكبرى التي تمر بها بلادنا والتي تتطلب في رأيي هذا التدخل على عديد المستويات لمحاولة إعطاء دفع لعملية التنمية .

إلا أن المفاوضات الأخيرة والنقاشات تبدو فيها دعوة للخروج من هذه السياسات النشيطة وعودة للمربع القديم للسياسات الاقتصادية فعلى مستوى سعر الصرف يدعونا الصندوق إلى سياسة أكثر مرونة وعلى المستوى السياسة المالية والنقدية هنالك مطالبة برفع نسب الفائدة وبطبيعة الحال هذه الدعوة من جانب صندوق النقد ناعمة في الوقت الحالي لكن قد تتطور لتصبح أكثر حضورا .

هذا التطور في نقاشنا مع صندوق النقد وهذه الدعوة للخروج من السياسات النشيطة و»الحنين» لمربع السياسات القديمة يطرح تساؤلات كبرى وهامة ولابد لها أن تحظى باهتمام الملاحظين والمسؤولين في بلادنا – ولابد لنا كذلك أن نفتح نقاشا هادئا ورصينا مع صندوق النقد والمؤسسات المالية الأخرى حول هذا التحول «الناعم» في سياساتنا الاقتصادية .

وهذا النقاش يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مسألتين هامتين – المسالة الأولى تخص مساوئ السياسات التقليدية أو المربع القديم للسياسات الاقتصادية والتي تضمنتها برامج التعديل الهيكلي. وهذه السياسات أثبتت فشلها في السابق وعدم قدرتها على دفع النمو وتحسين القدرة التنافسية للبلدان النامية .

المسألة الثانية تهم قدرة هذه السياسات التقليدية على الخروج من الأزمة الاقتصادية التي نمر بها – وقد كانت بعض إشارات هذا التوجه الجديد خاصة في ميدان سعر الصرف وراء ردات فعل عنيفة لا فقط من قبل الفاعلين الاقتصاديين كما أشار إلى ذلك بيان منظمة الصناعة والتجارة وكذلك المواطنين العاديين .

هذه التساؤلات تطرح مسألة أهم وأعمق وهي ضرورة تحديد اختياراتنا الاقتصادية وتوضيح رؤيتنا للتحديات التي تواجهها بلادنا وللسياسات الاقتصادية التي ينبغي إتباعها للخروج من هذه الأزمات.

Laisser un commentaire

Votre adresse de messagerie ne sera pas publiée.